فصل: ذكر إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عمرة القضاء:

لما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من خيبر أقام بالمدينة جماديين ورجب وشعبان ورمضان وشوالاً يبعث السرايا، ثم خرج في ذي الحجة معتمراً عمرة القضاء وساق معه سبعين بدنةً وخرج معه المسلمون ممن كان معه في عمرته الأولى. فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه وتحدثت قريش بينها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في عسر وجهد، فاصطفوا له عند دار الندرة، فلما دخلها اضطبع بردائه فأخرج عضده اليمنى ثم قال: «رحم الله أمرأً أراهم اليوم من نفسه قوّةً»! ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه، وكان بين يديه لما دخل مكة عبد الله بن رواحة آخذاً بخطام ناقته وهو يقول:
خلّوا بني الكفّار عن سبيله ** خلّوا فكلّ الخير في رسوله

يا ربّ إنّي مؤمنٌ بقيله ** أعرف حقّ الله في قبوله

نحن قتلناكم على تأويله ** ويذهل الخليل عن خليله

وتزوج النبي، صلى الله عليه وسلم، في سفره هذا بميمونة بنت الحارث وأقام بمكة ثلاثاً، فأرسل المشركون إليه مع علي بن أبي طالب ليخرج عنهم. فقال: ما عليهم لو أعرست بين أظهرهم وصنعنا لهم طعاماً فحضروه معنا؟ فقالوا: لا حاجة لنا في طعامه. فخرج عنهم وبنى بميمونة بسرف، ثم انصرف إلى المدينة فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع، وبعث جيشه الذي أصيب بمؤتة، وولي تلك الحجة المشركون.
وفيها كانت غزوة ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي القعدة، فلقوه فأصيب هو وأصحابه، وقيل: بل نجا وأصيب أصحابه. ودخلت:

.سنة ثمان:

فيها توفيت زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ قاله الواقدي. وفيها كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي الكلبي، كلب الليث، إلى بن الملوح، فلقيه الحارث بن البرصاء الليثي فأخذوه أسيراً، فقال: إنما جئت لأسلم. فقال له غالب: إن كنت صادقاً فلن يضرك رباط ليلة، وإن كنت كاذباً استوثقنا منك. ووكل به بعض أصحابه وقال له: إن نازعك فخذ رأسه؛ وأمره بالمقام إلى أن يعود، ثم ساروا حتى أتوا بطن الكديد فنزلوا بعد العصر وأرسلوا جندب بن مكيث الجهني ربيئة لهم، قال: فقصدت تلاً هناك يطلعني على الحاضر فانبطحت عليه، فخرج لي منهم رجلٌ فرآني منبطحاً، فأخذ قوسه وسهمين فرماني بأحدهما، فوضعه في جنبي، قال: فنزعته ولم أتحرك، ثم رماني بالثاني فوضعه في رأس منكبي، قال: فنزعته ولم أتحرك. قال: أما والله لقد خالطه سهماي ولو كان ربيئة لتحرك. قال: فأمهلناهم حتى راحت مواشيهم واحتلبوا فشننا عليهم الغارة فقتلنا منهم واستقنا منهم النعم ورجعنا سراعاً. وأتى صريخ القوم فجاءنا ما لا قبل لنا به حتى إذا لم يكن بيننا إلا بطن الوادي من قديد بعث الله من حيث شاء سحاباً ما رأينا قبل ذلك مطراً مثله، فجاء الوادي بما لا يقدر أحد يجوزه، فلقد رأيتهم ينظرون إلينا ما يقدر أحد يتقدم، وقدمنا المدينة. وكان شعار المسلمين: أمت أمت، وكان عدتهم بضعة عشر رجلاً.
وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وبها المنذر بن ساوى، فصالح المنذر على أن على المجوس الجزية ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. وقيل: إن إرساله كان سنة ست من الهجرة مع الرسل الذين أرسلهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الملوك، وقد تقدم ذلك.
وفيها كانت سرية شجاع بن وهب إلى بني عامر في ربيع الأول في أربعة عشر رجلاً، فأصابوا نعماً، فكان سهم كل رجل منهم خمسة عشر بعيراً.
وفيها كانت سرية عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات الأطلاح في خمسة عشر رجلاً، فوجد بها جمعاً كثيراً فدعاهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا وقتلوا أصحاب عمرو ونجا حتى قدم المدينة.
وذات الأطلاح من ناحية الشام، وكانوا من قضاعة ورئيسهم رجل يقال له سدوس.

.ذكر إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة:

في هذه السنة في صفر قدم عمرو بن العاص مسلماً على النبي، صلى الله عليه وسلم، وقدم معه خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة العبدري.
وكان سبب إسلام عمرو أنه قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق قلت لأصحابي: إني أرى أمر محمد يعلو علواً منكراً، وإني قد رأيت أن نلحق بالنجاشي، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، وإن ظهر قومنا على محمد فنحن من قد عرفوا. قالوا: إن هذا الرأي. قال: فجمعنا له أدماً كثيراً وخرجنا إلى النجاشي، فإنا لعنده إذ وصل عمرو بن أمية الضمري رسولاً من النبي، صلى الله عليه وسلم، في أمر جعفر وأصحابه. قال: فدخلت على النجاشي وطلبت منه أن يسلم إلي عمرو بن أمية الضمري لأقتله تقرباً إلى قريش بمكة. فلما سمع كلامي غضب وضرب أنفه ضربةً ظننت أنه قد كسره، يعني النجاشي، فخفته ثم قلت: والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟ قال: قلت: أيها الملك أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قال: فقلت: فبايعني له على الإسلام. فبسط يده فبايعته ثم خرجت إلى أصحابي وكتمتهم إسلامي وخرجت عائداً إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولقيني خالد بن الوليد، وذلك قبل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم، إن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى! فقلت: ما جئت إلا للإسلام، فقدمنا على النبي، صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم، ثم دنوت فأسلمت، وتقدم عثمان بن طلحة فأسلم.

.ذكر غزوة ذات السلاسل:

وفيها أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص إلى أرض بلي وعذرة يدعو الناس إلى الإسلام، وكانت أمه من بلي، فتألفهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فسار حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل، وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل، فلما كان به خاف فبعث إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يستمده، فبعث إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. فخرج أبو عبيدة، فلما قدم عليه قال عمرو: إنما جئت مدداً إلي. فقال له أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: لا تختلفا، فإن عصيتني أطعتك. قال: فأنا أمير عليك. قال: فدونك. فصلى عمرو بالناس.
وفيها أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندى بعمان، فآمنا وصدقا. وأخذ الجزية من المجوس.

.ذكر غزوة الخبط وغيرها:

وفيها كانت غزوة الخبط، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح، في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وكانت في رجب، وزودهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جراباً من تمر، فكان أبو عبيدة يقبض لهم قبضة ثم تمرة تمرة، فكان أحدهم يلوكها ويشرب عليها الماء، فنفد ما في الجراب، فأكلوا الخبط وجاعوا جوعاً شديداً، فنحر لهم قيس بن سعد بن عبادة تسع جزائر فأكلوها، فنهاه أبو عبيدة، فانتهى. ثم إن البحر ألقى إليهم حوتاً ميتاً فأكلوا منها حتى شبعوا، ونصب أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فيمر الراكب تحته. فلما قدموا المدينة ذكروا ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: كلوا رزقاً أخرجه الله لكم، وأكل منه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذكروا صنيع قيس بن سعد، فقال: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت.
وفيها كانت سرية وجهها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شعبان أميرها أبو قتادة ومعه عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي؛ وكان سببها أن رفاعة بن قيس، أو قيسس بن رفاعة، في بطن عظيم من جشم نزل بالغابة يجمع لحرب النبي، صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، أبا قتادة ومن معه ليأتوا منه بخير، فوصلوا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس، فكمن كل واحد منهم في ناحية، وكانوا ثلاثة، وقيل: كانوا ستة عشر رجلاً، قال عبد الله بن أبي حدرد: فكان لهم راعٍ أبطأ عليهم، فخرج رفاعة بن قيس في طلبه ومعه سلاحه، فرميته بسهم في فؤاده، فما تكلم، قال: فأخذت رأسه ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت وكبر صاحباي، فوالله ما كان إلا النجاء، فأخذوا نساءهم وأبناءهم وما خف عليهم واستقنا الإبل الكثيرة والغنم فجئنا بها رسول الله وبرأسه معي، فأعطاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من تلك الإبل عشر بعيراً، وكنت قد تزوجت وأخذت أهلي. وعدل البعير بعشر من الغنم.
وفيها أغزى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا قتادة أيضاً إلى إضم ومعه محلم بن جثامة الليثي قبل الفتح، فلقيهم عامر بن الأضبط الأشجعي على بعير له ومعه متاعه، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فأمسكوا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينهما فقتله وأخذ بعيره، فلما قدمنا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخبره الخبر، فنزل: {يَا أيُّهَا الَّذيِنَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا} النساء: 93؛ الآية؛ وقيل: كانت هذه السرية حين خرج إلى مكة في رمضان. وكانوا ثمانية نفر.

.ذكر غزوة مؤتة:

كان ينبغي أن نقدم هذه الغزوة على ما تقدم، وإنما أخرناها لتتصل الغزوات العظيمة فيتلوا بعضها بعضاً. وكانت في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة. فقال جعفر: ما كنت أذهب أن تستعمل علي زيداً. فقال: امض فإنك لا تدري أي ذلك خير. فبكى الناس وقالوا: هلا متعتنا بهم يا رسول الله؟ فأمسك، وكان إذا قال: فإن أصيب فلان فالأمير فلان، أصيب كل من ذكره.
فتجهز الناس، وهم ثلاثة آلاف، وودعهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والناس. فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى عبد الله، فقال له الناس: ما يبكيك؟ فقال: ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكن سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقرأ آية، وهي: {وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} مريم: 71؛ فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا سالمين. فقال عبد الله:
لكنّني أسأل الرّحمن مغفرةً ** وضربةً ذات فرغٍ تقذف الزّبدا

أو طعنةً بيدي حرّان مجهزةً ** بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقولوا إذا مرّوا علي جدثي ** أرشدك الله من غازٍ وقد رشدا

فلما ودعهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعاد قال عبد الله:
خلف السّلام على امرءٍ ودّعته ** في النّخل خير مشيّع وخليل

ثم ساروا حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل سار إليهم في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبلي، عليهم رجل من بلي يقال له مالك بن رافلة، ونزلوا مآب من أرض البلقاء، فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نخبره الخبر وننتظر أمره، فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين، فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين. فقال الناس: صدق والله، وساروا، وسمعه زيد بن أرقم، وكان يتيماً في حجره، وقد أردفه في مسيره ذلك على حقيبته، وهو يقول:
إذا أدّيتني وحملت رحلي ** مسيرة أربعٍ بعد الحساء

فشأنك فانعمي وخلاك ذمّ ** ولا أرجع إلى أهلي ورائي

وجاء المسلمون وغادروني ** بأرض الشّام مشتهي الثّواء

وردّك كلّ ذي نسب قريبٍ ** من الرّحمن منقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع بعلٍ ** ولا نخلٍ أسافلها رواء

فلما سمعها زيد بكى، فخفقه بالدرة وقال: ما عليك يا لكع! يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل؟ ثم ساروا، فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها مشارف، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، وكان على ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري، وعلى ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاري، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل بها وهو يقول:
يا حبّذا الجنّة واقترابها ** طيّبةً وبارداً شرابها

والرّوم رومٌ قد دنا عذابها، ** عليّ، إذ لاقيتها، ضرابها

فلما اشتد القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل، وكان كعفر أول من عقر فرسه في الإسلام، فوجدوا به بضعاً وثمانين بين رمية وضربة وطعنة، فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم تقدم، فتردد بعض التردد، ثم قال يخاطب نفسه:
أقسمت يا نفس لتنزلنّه ** طائعةً أو لا لتكرهنّه

إن أجلت النّاس وشدّوا الرّنّه ** ما لي أراك تكرهين الجنّه

قد طال ما قد كنت مطمئنّه ** هل أنت نطفةٌ في شنّه

وقال أيضاً:
يا نفس إن لم تقتلي تموتي ** هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنّيت فقد أعطيت ** إن تفعلي فعلهما هديت

ثم نزل عن فرسه، وأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال له: شد بهذا صلبك، فقد لقيت ما لقيت. فأخذه فانتهش منه نهشةً ثم سمع الحطمة في ناحية العسكر فقال لنفسه: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه وأخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل.
واشتد الأمر على المسلمين وكلب عليهم العدو، وقد كان قطبة بن قتادة قتل قبل ذلك مالك بن رافلة قائد المستعربة. ثم إن الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر وأمر فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال: باب خير! ثلاثاً أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؛ إنهم لقوا العدو فقتل زيد شهيداً، فاستغفر له، ثم أخذ اللواء جعفرٌ فشد على القوم حتى قتل شهيداً، فاستغفر له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، وصمت حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان من عبد الله ما يكرهون، ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فقاتل القوم حتى قتل شهيداً، ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة على سر من ذهب، فرأيت في سرير ابن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل: مضيا، وتردد بعض التردد ثم مضى. ولما قتل ابن رواحة أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: رضينا بك. فقال: ما أنا بفاعل. فاصطلحوا على خالد بن الوليد، فأخذ الراية ودافع القوم وانحازوا عنه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد، فعاد بالناس، فمن يومئذٍ سمي خالد سيف الله.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: مر بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة له جناحان مختضب القوادم بالدم.
قالت أسماء: أتاني النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد فرغت من اشتغالي وغسلت أولاد جعفر ودهنتهم فأخذهم وشمهم ودمعت عيناه، فقلت: يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء؟ قال: نعم، أصيب هذا اليوم. ثم عاد إلى أهله فأمرهم أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً، فهو أول ما عمل في دين الإسلام. قالت أسماء بنت عميس: فقمت أصنع، واجتمع إلي النساء. فلما رجع الجيش ودنا من المدينة لقيهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون، فأخذ عبد الله بن جعفر فحمله بين يديه، فجعل الناس يحثون التراب على الجيش ويقولون: يا فرار؟! ويقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بالفُرّار ولكنّهم الكُرّار إن شاء الله تعالى».

.ذكر فتح مكة:

وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد غزوة مؤتة جمادى الآخرة ورجباً، ثم إن بني بكر بن عبد مناة عدت على خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير، وكانت خزاعة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبكر في عهد قريش في صلح الحديبية؛ وكان سبب ذلك أن رجلاً من بني الحضرمي اسمه مالك بن عباد وكان حليفاً للأسود بن رزن الدثلي ثم البكري في الجاهلية خرج تاجراً، فلما كان بأرض خزاعة قتلوه وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة على بني الأسود بن رزن، وهم سلمى وكلثوم وذؤيب، فقتلوهم بعرفة، وكانوا من أشراف بني بكر، فبينما خزاعة وبكر على ذلك جاء الإسلام واشتغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية ودخلت خزاعة في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ودخلت بكر في عهد قريش، اغتنمت بكر تلك الهدنة وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأرهم بقتل بني الأسود، فخرج نوفل بن معاوية الدثلي بمن تبعه من بكر حتى بيت خزاعة على ماء الوتير.
وقيل: كان سبب ذلك أن رجلاً من خزاعة سمع رجلاً من بكر ينشد هجاء النبي، صلى الله عليه وسلم، فشجه، فهاج الشر بينهم وثارت بكر بخزاعة حتى بيتوهم باوتير، وأعانت قريش بني بكر على خزاعة بسلاح ودواب وقاتل معهم جماعة من قريش مختفين، منهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهل بن عمرو، فانحازت خزاعة إلى الحرم وقتل منهم نفر. فلما دخلت خزاعة الحرم قالت بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك! فقال: لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ فلما نقضت بكر وقريش العهد الذي بينهم وبين النبي، صلى الله عليه وسلم، خرج عمرو بن سالم الخزاعي ثم الكعبي حتى قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة فوقف عليه ثم قال:
لا همّ إنّي ناشدٌ محمّداً ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا

فوالداً كنّا وكنت ولدا ** ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر رسول الله نصراً أعتدا ** وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجرّدا ** أبيض مثل البدر ينمي صعدا

إن سيم خسفاً وجهه تربّدا ** في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ** ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

وجعلوا لي في كداءٍ رصدا ** وزعموا أن لست أدعوا أحدا

وهم أذلّ وأقلّ عددا

هم بيّتونا بالوتير هجّدا

فقتّلونا ركّعاً وسجّدا

فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد نصرت يا عمرو بن سالم! ثم عرض لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنان من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
وكان بين عبد المطلب وخزاعة حلف قديم، فلهذا قال عمرو بن سالم: حلف أبينا وأبيه الأتلدا.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة فنادوه وهو يغتسل فقال: يا لبيكم! وخرج إليهم، فأخبروه الخبر ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد قال: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليجدد العهد خوفاً ويزيد في المدة. ومضى بديل فلقي أبا سفيان بعسفان يريد النبي، صلى الله عليه وسلم، ليجدد العهد خوفاً منه، فقال لبديل: من أين أقبلت؟ قال: من خزاعة في الساحل وبطن هذا الوادي. قال: أوما أتيت محمداً؟ قال: لا. فقال أبو سفيان لأصحابه لما راح بديل: انظروا بعر ناقته، فإن جاء المدينة لقد علف النوى. فنظروا بعر الناقة فرأوا فيه النوى.
ثم خرج أبو سفيان حتى أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي، فلما أراد أن يجلس على فراش رسول الله طوته عنه. فقال: أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟ فقالت: هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجسٌ فلم أحب أن تجلس عليه، فقال: لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فكلمه، فلم يرد عليه شيئاًن ثم أتى أبا بكر فكلمه ليكلم له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل ثم أتى عمر فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم! والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج حتى أتى علياً، وعنده فاطمة والحسن غلام، فكلمه في ذلك، فقال له: والله لقد عزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أمر لا نستطيع أن نكلمه فيه. فقال لفاطمة: يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب؟ فقالت: ما بلغ ابني أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد. فالتفت إلى علي فقال له: أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. قال: أنت سيد كنانة فقم فأجر بين الناس والحق بأرضك فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره وقدم مكة وأخبر قريشاً ما جرى له وما أشار به علي عليه. فقالوا له: والله ما زاد على أن يسخر بك.
ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تجهز وأمر الناس بالتجهز إلى مكة وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يعلمهم الخبر وسيره مع امرأة من مزينة اسمها كنود، وقيل: مع سارة مولاة لبني المطلب. فأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً والزبير، فأدركاها وأخذا منها الكتاب وجاءا به إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأحضر حاطباً وقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما بدت ولا غيرت ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد وليس لي عشيرة فصانعتهم عليهم. فقال عمر: دعني أضرب عنقه فإنه قد نافق. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم، وأنزل الله في حاطب: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاءَ} إلى آخر الآية الممتحنة: 1.
ثم مضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان، وفتح مكة لعشر بقين منه، فصام حتى بلغ ما بين عسفان وأمج، فأفطروا، واستوعب معه المهاجرون والأنصار، فسبعت سليم وألفت مزينة، وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأدركه عيينة بن حصن الفزاري بالعرج والأقرع بن حابس بالسقيا، ولقيه العباس بن عبد المطلب باحجفة، وقيل: بذي الحليفة، مهاجراً، فأمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يرسل رحله إلى المدينة ويعود معه، وقال له: أنت آخر المهاجرين، وأنا آخر الأنبياء.
ولقيه أيضاً محرمة بن نوفل، وأبو سيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بنيق العقاب، فالتمسا الدخول على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكلمته أم سلمة فيهما وقالت له: ابن عمك وابن عمتك. قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال بمكة ما قال. فلما سمعا ذلك وكان مع أبي سفيان ابن له اسمه جعفر فقال: والله ليأذن لي أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فرق لهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأدخلهما إليه فأسلما.
وقيل: إن علياً قال لأبي سفيان بن الحارث: إيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللهِ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإنْ كَنّا لَخَاطِئِينَ} يوسف: 91 فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه فعلاً ولا قولاً، ففعل ذلك. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} يوسف: 92، وقربهما، فأسلما، وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما مضى:
لعمرك إنّي يوم أحمل رايةً ** لتغلب خيل اللاّت خيل محمّد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله ** فهذا أواني حين أهدى وأهتدي

وهادٍ هداني غير نفسي ونالني ** مع الله من طردت كلّ مطرّد

الأبيات. فضرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صدره وقال: «أنت طرّدتني كلَّ مطرَّد». وقيل: إن أبا سفيان لم يرفع رأسه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حياء منه.
وقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مر الظهران في عشرة آلاف فارس، من بني غفار أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم سبعمائة، ومن جهينة ألف وأربعمائة، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف من العرب، ثم من تميم وأسد وقيس.
فلما نزل مر الظهران قال العباس بن عبد المطلب: يا هلاك قريش؟! والله لئن بغتها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بلادها فدخل عنوة إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. فجلس على بغلة النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال: أخرج لعلي أرى حطاباً أو رجلاً يدخل مكة فيخبرهم بكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيأتونه ويستأمنونه. قال: فخرجت أطوف في الأراك إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي قد خرجوا يتجسسون. فقال أبو سفيان: ما رأيت نيراناً أكثر من هذه. فقال بديل: هذه نيران خزاعة. فقال أبو سفيان: خزاعة أذل من ذلك. فقلت: يا أبا حنظلة، يعني أبا سفيان كان يكنى بذلك، فقال: أبو الفضل! قلت: نعم. قال: لبيك فداك أبي وأمي، ما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المسلمين أتاكم في عشرة آلاف. قال: ما تأمرني؟ قلت: تركب معي فأستأمن لك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فردفني، فخرجت أركض به نحو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين يقولون: عم رسول الله على بغلة رسول الله، حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب، فقال أبو سفيان: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد! ثم اشتد نحو النبي، صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقت عمر، ودخل عمر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره وقال: دعني أضرب عنقه. فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته. ثم أخذت برأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقلت: لا يناجيه اليوم أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلاً يا عمر، فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة. فقال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اذهب فقد آمناه حتى تغدو علي به بالغداة. فرجعت به إلى منزلي وغدوت به على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لو كان مع الله غيه لقد أغنى عني شيئاً. فقال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شيء. قال العباس: فقلت له: ويحكم تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك! قال: فتشهد، وأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للعباس: اذهب فاحبس أبا سفيان عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله. فقلت: يا رسول الله إنه يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه. فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
قال: فخرجت به فحبسته عند خطم الجبل، فمرت عليه القبائل فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أمسلم. فيقول: ما لي ولأسلم. ويقول: من هؤلاء؟ فأقول: جهينة. فيقول: ما لي ولجهينة. حتى مر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في كتيبته الخضراء مع المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق. فقال: من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فقلت: ويحك إنها النبوة. فقال: نعم إذن. فقلت: الحق بقومك سريعاً فحذرهم. فخرج حتى أتى مكة ومعه حكيم بن حزام، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. فقالوا: فمه. قال: من دخل داري فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن؛ ثم قال: يا معشر قريش أسلموا تسلموا.
فأقبلت امرأته هند فأخذت بلحيته وقالت: يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق. فقال: أرسلي لحيتي وأقسم لئن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك، ادخلي بيتك! فتركته.
وبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أثرهما الزبير وأمره أن يدخل ببعض الناس من كداء، وكان على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل ببعض الناس من كداء، فقال سعد حين وجهه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستح الحرمة. فسمعها رجل من المهاجرين فأعلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية منه وكن أنت الذي تدخل بها، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من الليط في بعض الناس، وكان معه أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب، وهو أول يوم أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد.
ولما وصل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ذي طوىً وقف على راحلته وهو معتجر ببرد خز أحمر وقد وضع رأسه تواضعاً لله تعالى حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن أسفل لحيته ليمس واسطة الرحل، ثم تقدم ودخل من أذاخر بأعلاها وضربت قبته هناك.
وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو قد جمعوا ناساً بالخندمة ليقاتلوا ومعهم الأحابيش وبنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناة، فلقيهم خالد بن الوليد فقاتلهم فقتل من المسلمين جابر بن جبيل الفهري وحبيش بن خالد، وهو الأشعر الكعبي، وسلمة بن الميلاء، وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلاً ثم انهزم المشركون.
وكان مع عكرمة حماس بن خالد الدثلي، وكان قد قال لأمرأته: لآتينك بخادم من أصحاب محمد، فلما عاد إليها منهزماً قالت له تستهزئ به: أين الخادم؟ فقال:
فأنت لو شهدتنا بالخندمه ** إذ فرّ صفوانٌ وفرّ عكرمه

وأبو يزيد كالعجوز المؤتمه ** لم تنطقي في اللّوم أدنى كلمه

إذ ضربتنا بالسّيوف المثلمه ** لهم زفيرٌ خلفنا وغمغمه

أبو يزيد هذا هو سهيل بن عمرو.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد عهد إلى امرائه أن لا يقتلوا أحداً إلا من قاتلهم. فلما انهزم المشركون وأراد المسلمون دخول مكة قام في وجوههم نساء مشركات يلطمن وجوه الخيل بالخمر وقد نشرن شعورهن، فرآهن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أبو بكر، فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أبا بكر كيف قال حسان؟ فأنشده:
تكاد جيادنا مستمطرات ** يلطّمهنّ بالخمر النّساء

وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أمر بقتل ثمانية رجال وأربع نسوة، فأما الرجال فمنهم عكرمة بن أبي جهل، كان يشبه أباه في إيذاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعداوته والإنفاق على محاربته، فلما فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة خافه على نفسه فهرب إلى اليمن وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فاستأمنت له وخرجت في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فأطعمته ولم تمكنه حتى أتت حياً من العرب فاستعانتهم عليه، فأوثقوه، وأدركت عكرمة وهو يريد ركوب البحر فقالت: جئتك من عند أوصل الناس وأحملهم وأكرمهم وقد آمنك، فرجع، وأخبرته خبر الرومي، فقتله قبل أن يسلم. فلما قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سر به، فأسلم وسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يستغفر له، فاستغفر.
ومنهم صفوان بن أمية بن خلف، وكان أيضاً شديداً على النبي، صلى الله عليه وسلم، فهرب خوفاً منه إلى جدة، فقال بن وهب الجمحي: يا رسول الله إن صفوان سيد قومي وقد خرج هارباً منك فآمنه. قال: هو آمنٌ، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ليعرف بها أمانه، فخرج بها عمير فأدركه بجدة فأعلمه بأمانه وقال: إنه أحلم الناس وأوصلهم، وإنه ابن عمك وعزه عزك وشرفه شرفك. قال: إني أخافه على نفسي. قال: هو أحلم من ذلك. فرجع صفوان وقال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن هذا يزعم أنك آمنتني. قال: صدق. قال: اجعلني بالخيار شهرين. قال: أنت فيه أربعة أشهر، فأقام معه كافراً وشهد معه حنيناً والطائف ثم أسلم وحسن إسلامه وتوفي بمكة عند خروج الناس إلى البصرة ليوم الجمل.
ومنهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي، وكان قد أسلم وكتب الوحي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه: عزيز حكيم، يكتب: عليم حكيم، وأشباه ذلك، ثم ارتد وقال لقريش: إني أكتب أحرف محمدٍ في قرآنه حيث شئت ودينكم خير من دينه؛ فلما كان يوم الفتح فر إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه عثمان حتى اطمأن الناس، ثم أحضره عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وطلب له الأمان، فصمت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، طويلاً ثم آمنه، فأسلم وعاد، فلما انصرف قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه: لقد صمت ليقتله أحدكم. فقال أحدهم: هلا أومأت إلينا؟ فقال: ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة، إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين.
ومنهم عبد الله بن خطل، وكان قد أسلم، فأرسله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مصدقاً ومعه رجل من الأنصار وغلامٌ له رومي قد أسلم، فكان الرومي يخدمه ويصنع الطعام، فنسي يوماً أن يصنع له طعاماً، فقتله وارتد، وكان له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتله سعيد بن حريث المخزومي، أخو عمرو بن حريث، وأبو برزة الأسلمي.
ومنهم الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة وينشد الهجاء فيه، فلما كان يوم الفتح هرب من بيته، فلقيه علي بن أبي طالب فقتله.
ومنهم مقيس بن صبابة، وإنما أمر بقتله لأنه قتل الأنصاري الذي قتل أخاه هشاماً خطأً وارتد، فلما انهزم أهل مكة يوم الفتح اختفى بمكان هو وجماعة وشربوا الخمر، فعلم به نميلة بن عبد الله الكناني، فأتاه فضربه بالسيف حتى قتله.
ومنهم عبد الله بن الزبعري السهمي، وكان يهجو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة ويعظم القول فيه، فهرب يوم الفتح هو وهبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانئ بنت أبي طالب إلى نجران، فأما هبيرة فأقام بها مشركاً حتى هلك، وأما ابن الزبعري فرجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واعتذر، فقبل عذره، فقال حين أسلم:
يا رسول المليك إنّ لساني ** راتقٌ ما فتقت إذ أنا بور

إذ أباري الشّيطان في سنن الغ ** يّ ومن نال مثله مثبور

آمن اللّحم والعظام بربّي ** ثمّ نفسي الشهيد أنت النّذير

في أشعار له كثيرة يعتذر بها.
ومنهم وحشي بن حرب قاتل حمزة، فهرب يوم الفتح إلى الطائف، ثم قدم في وفد أهله على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، أوحشي؟ قال: نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمي؟ فأخبره، فبكى وقال: غيب وجهك عني. وهو أول من جلد في الخمر، وأول من لبس المعصفر المصقول في الشام.
وهرب حويطب بن عبد العزى، فرآه أبو ذر في حائط فأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكانه، فقال: أوليس قد آمنا الناس إلا من قد أمرنا بقتله؟ فأخبره بذلك، فجاء إلى النبي فأسلم. قيل: إنه دخل يوماً على مروان بن الحكم وهو على المدينة فقال له مروان: يا شيخ تأخر إسلامك. فقال: لقد هممت به غير مرة فكان يصدني عنه أبوك.
فأما النساء فمنهن هند بنت عتبة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر بقتلها لما فعلت بحمزة ولما كانت تؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة، فجاءت إليه النساء متخفية فأسلمت وكسرت كل صنم في بيتها وقالت: لقد كنا منكم في غرور، وأهدت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جديين، واعتذريت من قلة ولادة غنمها، فدعا لها بالبركة في غنمها فكثرت، فكانت تهب وتقول: هذا من بركة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام.
ومنهن سارة، وهي مولاة عمرو بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهي التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة في قول بعضهم، وكانت قدمت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مسلمة فوصلها فعادت إلى مكة مرتدة، فأمر بقتلها، فقتلها علي بن أبي طالب.
ومنهن قينتا عبد الله بن خطل، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما، فقتلت إحداهما واسمها قريبة، وفرت الأخرى وتنكرت وجاءت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلمت وبقيت إلى خلافة عمر بن الخطاب، فأوطأها رجل فرسه خطأً فماتت، وقيل: بقيت إلى خلافة عثمان، فكسر رجل ضلعاً من أضلاعها خطأً فماتت، فأغرمه عثمان ديتها.
ولما دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة كانت عليه عمامة سوداء، فوقف على باب الكعبة وقال: لا إله إلا الله وحده، وصدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل دم أو مأثرة أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحج. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخٍ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فعفا عنهم، وكان الله قد أمكنه منهم، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء. وطاف بالكعبة سبعاً، ودخلها وصلى فيها، ورأى فيها صور الأنبياء، فأمر بها فمحيت، وكان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان بيده قضيب، فكان يشير به إلى الأصنام وهو يقرأ: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} الاسراء: 81؛ فلا يشير إلى صنم منها إلا سقط لوجهه. وقيل بل أمر بها وخذمت وكسرت.
ثم جلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للبيعة على الصفا، وعمر بن الخطاب تحته، واجتمع الناس لبيعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، فكانت هذه بيعة الرجال.
وأما بيعة النساء فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء، فأتاه منهن نساء من نساء قريش، منهن أم هانئ بنت أبي طالب، وأم حبيب بنت العاص بن أمية، وكانت عند عمرو بن عبد ود العامري، وأروى بنت أبي العيص عمة عتاب بن أسيد، وأختها عاتكة بنت أبي العيص، وكانت عند الطلب بن أبي وداعة السهمي، وأمه بنت عفان بن العاص أخت عثمان، وكانت عند سعد حليف بني مخزوم، وهند بنت عتبة، وكانت عند أبي سفيان، ويسيرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل، وفاختة بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد، وكانت عند صفوان بن أمية بن خلف، وريطة بنت الحجاج، وكانت عند عمرو بن العاص في غيرهن وكانت هند متنكرة لصنيعها بحمزة، فهي تخاف أن تؤخذ به، وقال لهن: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئاً. قالت هند: إنك والله لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال فسنؤتيكه. قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة والهنة. فقال أبو سفيان، وكان حاضراً: أما ما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أهند؟ قالت: أنا هند فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين. قالت: وهي تزني الحرة؟ قال: ولا تقتلن أولادكن. قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً فأنت وهم أعلم. فضحك عمر. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن. قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف. قالت: ما جلسنا هذا المجس ونحن نريد أن نعصيك. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمر: بايعهن. وإستغفر لهن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يمس النساء ولا يصافح امرأة ولا تمسه امرأة إلا امرأة أحلها له أو ذات محرم منه.
ولما جاء وقت الظهر أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بلالاً أن يؤذن على ظهر الكعبة وقريش فوق الجبال، فمنهم من يطلب الأمان ومنهم من قد أمن، فلما أذن وقال: أشهد أن محمداً رسول الله، قالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة. وقيل: إنها قالت: لقد رفع الله ذكر محمد، وأما نحن فسنصلي ولكنا لا نحب من قتلالأحبة. وقال خالد بن أسد، أخو عثمان بن أسد: لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: ليتني مت قبل هذا اليوم. وقال جماعة نحو هذا القول. ثم أسلموا وحسن إسلامهم ورضي الله عنهم.
وأما الأسماء المشكلة: فحاطب بن أبي بلتعة بالحاء والطاء المهملتين، والباء الموحدة، وبلتعة بالباء الموحدة، وبعد اللام تاء مثناة من فوقها. وعيينة بن حصن بضم العين المهملة، ويائين مثناتين من تحت، ثم نون، تصغير عين. وبديل بن ورقاء بضم الباء الموحدة. وعتاب بالتاء فوقها نقطتان، وآخره باء موحدة. وأسيد بفتح الهمزة، وكسر السين.
وقول أم سلمة: ابن عمك وابن عمتك، فتعني بابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، وهو أخوها لأبيها، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب. وقوله: قال في مكة ما قال، فإنه قال بمكة: لن نؤمن لك حتى ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه وقد غلط هنا بعض العلماء الكبار فقال: معنى قول أم سلمة: ابن عمتك، أن جدة النبي أم عبد الله كانت مخزومية وعبد الله بن أبي أمية مخزومي، فعلى هذا يكون ابن خالته لا ابن عمته، والصواب ما ذكرناه.
وحبيش بن خالد بضم الحاء المهملة، وبالباء الموحدة، ثم بالياء المثناة من تحت، وآخره شين معجمة. ومقيس بن صبابة بكسر الميم، وسكون القاف، وبالياء المثناة من تحت المفتوحة، وآخره سين مهملة. وصبابة بضم الصاد المهملة، وبائين موحدتين بينهما ألف.
خطم الجبل روي بالخاء المعجمة، وبالحاء المهملة، فأما بالخاء المعجمة فهو الأنف الخارج من الجبل، وأما بالحاء المهملة فهو الموضع الذي ثلم منه وقطع فبقي منقطعاً، وقد روي حطم الخيل بالحاء المهملة، والخيل هذه هي التي تركب، يعني أنه يحبسه في الموضع الضيق الذي يحطم الخيل فيه بعضها بعضاً لضيقه.